Scan barcode
A review by shehab_eldin
عبث الأقدار by Naguib Mahfouz
4.0
من ذاك العبد الذي يسمونه بالطاعة؟ ومن ذلك الظالم العاتي الذي يدعونه بالواجب؟ ما الإمارة، وما العبودية؟ كيف تهصر هذه الأسماء قلبه وترمي به في هوة اليأس الأليم."
نجيب محفوظ بمثابة أفيون القراءة الخاص بي..
قد أتركه يوم أو يومين وربما أسبوع وأسبوعين وقد أنساه شهر.. شهرين، ثلاث أو أربع. لكن في الأخر سأعود إليه حتماً لن ينساه جسدي وسيحن إليه عقلي. لأخذ جرعة محفوظية جديدة ونذهب للتخبط يميناً ويساراً مع الكتاب الأخرين ثم أعود عاجزاً باحثاً عن جرعة الأفيون من جديد.
الفنّان لا غاية له إلا اسكناه ذوات الأشياء .. وهذا هو الجمال .. لأن الجمال هو استجلاء ذات الشيء الذي يجعل منه ومن بقية المخلوقات وحدة ذات انسجام ..
هاهو نجيب محفوظ بالنسبة لي وللكثير من أصدقائنا ربما هو كاتب كل الفترات ولحسن الحظ نجيب وحده يمتلك غزارة أدبيه وكثرة من المنشورات ربما فقط أتمنى أن يمهلني الله من الحياة ما يكفي لإتمامهن.
اليوم في رحلة أخرى مع نجيب في ثلاثيته المصرية القديمة.. رحلته حيث خوفو القاهر الحكيم.. الملك الخالد.. معبود مصر الأولى وحاميها من بعد مينا.. وقاتل أعدائها من بعد توحيد النيل وكان أول أسياد النوبة..
فهل كان خوفو العظيم صاحب الهرم الأكبر حكيماً أم ملكاً قاهراً خالداً؟.. لكن الحقيقة الوحيدة أنه عاند القدر وما للقدر من مرد ولا مانع ولا حائل، لكنه رفض القدر ومن يملك أن يرفض قدره؟، وما كتب في السماوات السبع لن يمنعه قوى الأرض وطغيان أهلها وطاغوت حكامها وجبروت أهلها وبناء أهرامها وعظمة نيلها وإمتداد فروعه وتشعب خيراته وغيث غيومه وسحب أجداده وظلام أهله ونور وطنه..
’’ واها! إن الزمان يتقدم غير ملتفت إلى الوراء.. و ينزل - كلما تقدم - قضاءه بالخلائق.. و ينفذ فيها مشيئته التي تهوى التغيير و التبديل.. فمنها ما يبلى و منها ما يتجدد.. و منها ما يموت و منها ما يحيا و منها ما يبتسم شبابه و منها ما يرد إلى أرذل العمر.. و منها ما يهتف للجمال و العرفان.. و منها ما يتأوه لدبيب اليأس و الفناء ’’
أجمعوا كل ما في الأرض.. أول البشر وأخرهم.. الجن والطير والأنس وملك سليمان وسليمان نفسه.. لن يمنعوا أبدا قضاء الله وقدره..
أجمعوا يوسف وموسى والله لن ترد عصاه إرادة صاحب الأرض وملكها الأول والاخير..
ربما في كثير من الأوقات لا نعلم جدوى القدر أبداً، عبثي يعاندنا.. وغير سليم ويقاتلنا.. وغير معافى ويحاربنا.. لكنه القدر وهي الحكمة الألهية لن نصل إلى الجدوى ابداً.
و لم يكن يعي ما يفعل و لا يقدر عاقبة تصرفه.. و كل ما يمكن قوله انه مسه سحر الإفتتان فأطاع وحيه و أصاخ إلى نداءه.. فأنطلق يعدو إلى غايته المجهولة مدفوعا بعاطفة قهارة لا تقاوم.. فقد اصابه مس من الإفتتان.. و استقر الإفتتان في قلب شجاع لا يهاب الموت.. جسور لا يلوي على المخاطر.. فكان من الطبيعي أن ينطلق لأنه ليس من عادته أن ينكمش.. و ليكن ما يكون.
وهكذا كان القدر مع خوفو.. عبثي وغير رحيم به ابداً في أواخر عمره غير مجدي.. غير منطقي خسر المنطق والفلسفة والعقل.. وخسر أغلى ما يملك.. هكذا أنتهت الحياة لخوفو وهكذا كانت الحياة في مصر القديمة في عصر الوثنية وتعدد الآلهة .. ولا إله إلا الله الواحد القهار..
بالمناسبة الملك خوفو هو الوحيد الذي لم ينحت له تمثالاً في عهده، لأنه حرم صناعة التماثيل في عصره، وبالتالي التمثال الوحيد المنحوت والواضح له في المتحف المصري، كان بعد نهاية عهده بأربعة أسر أو خمس، وعلى كل حال يكفي الهرم وما تركه لنا من خلود.
"وبالرغم من كل شيء ظل مفتوناً بها، لا تفارق صورتها صدره، كي يخلو إليها كلما خلا إلى نفسه."
قلم نجيب محفوظ في تلك الرواية مختلف كثيرا عن قلمه المعتاد.. يفقد الأسلوب العامي الحرافيشي الشهير له.. ومع ذلك أحببت أسلوبه رغم شعوري في كثير من الصفحات إني أقرأ لكاتب أخر..
ولسوء الحظ خسر نجيب محفوظ حبكته الشهيرة في قصصه القصيرة ورواياته في تلك الرواية.. فالنهاية معلومة من الصفحة الأولى بالقليل والقليل من التوقع.. بلا حبكة واضحة وملحوظة.. لكن في النهاية هو نجيب وأنا أحبه وأحب ما يكتب وأقبل القليل منه ولا أقبله من سواه..
’’ الإنغمار في الجندية والتفرغ لها معناه النزول عن الانسانية وتدمير الحياة العقلية والرجوع القهقرى إلى مراتب الحيوان.’’
فعندما اقرأ كتاب لنجيب لا أستطيع أن أفصل شخصه عن وجداني وانا اقرأ مهما كان في الكتاب من جودة.. في أخر الأمر هو نجيب محفوظ الأفيون الخاص بي.. سأعود له دائماً وابداً.
حقاً إن الجمال يذل أعناق الرجال"