A review by salmashesh
Akhenaten: Dweller in Truth a Novel by Naguib Mahfouz

5.0

لطالما كنت شغوفة بحقبة العمارنة والآتونية ونبيها المنبوذ أخناتون، امتد شغفي لأكن إعجابا شخصيا بأخناتون "الفرد الأول في التاريخ" كما أطلق عليه والعظيمة نفرتيتي أجمل نساء الأرض التي ضاهت أخناتون في أهميته، جاء إعجابي جما فظهر في شوقي للبقاء لأطول مدة في جناح العمارنة في المتحف المصري وحقدي على توت عنخ آمون الذي استأثر بكل المجد العالمي من اجل مقبرته الكاملة لا من اجل تفرده وتميزه كملك مصر، وصولا بهوسي بأوبرا أخناتون تأليف الموسيقار الأمريكي فيليب جلاس وحتى حزني على فيلم أخناتون الذي لم ولن يخرج لنور الشمس أبدا لوفاة صاحب المشروع المبدع شادي عبد السلام مخرج المومياء. وعلى الرغم من ما ألحقته تلك الفترة الثورية الداعية للتوحيد من دمار في مصر هز كيانها وأنهى مجدها ومجد الأسرة الثامنة عشر الذي شيده أحمس، إلا أنها بلا شك حقبة شديدة الثراء مثيرة للاهتمام وأخناتون شخصية متفردة متميزة غير عادية لا يزال يكتنفه الغموض والتكهنات، وعندما عرفت بمحض الصدفة أن الأديب العظيم نجيب محفوظ أنتج عملا أدبيا مبنيا على هذه الحقبة شعرت بالغضب من إهمالي وجهلي ففي الوقت الذي أبحث فيه عن أعمال أدبية مستوحاة من تلك الفترة وأقابل بخيبة الأمل أضعت الكثير من الوقت حتى تجلى لي هذا العمل الرائع الذي التهمته التهاما في جلسة واحدة.
بالتأكيد يجب وضع في الاعتبار أنها رواية تخيلية مستوحاة من أحداث تاريخية فلم أبال كثيرا بالدقة التاريخية واختلاف الأحداث لأنه ليس كتاب تاريخ (على سبيل المثال لم يكن معلوما وقت كتابة الرواية حقيقة ان توت عنخ آمون هو ابن أخناتون من كايا وان نفرتيتي زوجته من احدى بناتها)
اتخذ محفوظ أسلوب التحقيق في السرد واستخدام أكثر من منظور في تفسير نفس الأحداث من وجهات نظر مختلفة عايشت تلك الاحداث، وهنا تتجلى عبقرية محفوظ لاختيار هذه الوسيلة بالذات، فحتى يومنا هذا أخناتون لا يزال يثير الجدل والآراء المتناقضة فنجد أنصاره من يؤمنون بتفرده وثورته على الموروثات الوثنية التعددية والدعوة لإله واحد وتصوره كشاعر فنان بلغ من الحكمة والتنوير ما لم يبلغه أحد من قبل في تاريخ البشرية الموثق، وهناك من يرون أخناتون مجرد فرعون ديكتاتور آخر قضى على حرية الأديان في سبيل الاستئثار بالحكم والقضاء على نفوذ كهنة آمون المتوغل، مهرطق غارق في جنون العظمة، طاغية والدليل على طغيانه عظام عظام عمال العاصمة الجديدة أخيت آتون التي تهشمت من بناء المدينة ليلا نهارا بلا راحة (والتي تم كشفها بتحليل مومياوات تلك الحقبة)، نعم الرأيان مرجحان ولكن اتفق جميع الأطراف أن أخناتون لم يكن حاكما جيدا سواء اتفقت أم اختلفت مع دعوته، فكان يصلح اكثر كنبي مبشر وشاعر حكيم. في صفحات رواية محفوظ نجد وجهتي النظر على لسان أبطال العمل، كل يروي عن أخناتون ما ظنه فيه وفي دعوته، فنجد تطرفا في تصويره إما كماجن مختل التهمه جنون الديانة أو داعية زاهد يدعو لدين الحب والسلام، والحق يقال إن محفوظ على الرغم من عرضه للمنظورين إلا أنه انتصر لأخناتون بشكل غير مصرح به، حتى أنه دعاه العائش في الحقيقة...فالادلة والمنطق يبوحان بصدق إيمان أخناتون، فهو لم يهتم بتوسعة رقعة بلاده او ارسال حملات عسكرية لترسيخ حكمه بل نبذ العنف كليا الى حد الضعف، وهذا كله في سبيل نشر رسالته...كان العائش في الحقيقة مهما كلفه الثمن، تلك الحقيقة النسبية التي لا يدركها بشر بصورة مطلقة، الشك والحقيقة والإيمان والدوافع...كلها مواضيع تم استكشافها بطريقة فلسفية منيرة للعقل.
لم أكن أتصور ان أقع في حب الرواية إلى هذا الحد، لغة محفوظ البديعة وبلاغته وثراء أسلوبه أطاحت بعقلي، شاعرية النص وجمالياته وروعة الحوار وبساطة الأشعار (المستوحاة من أشعار أخناتون الحقيقة بالمناسبة) كانت في غاية الروعة، بالنسبة لي هي أجمل روايات محفوظ أسلوبا ولغة.
الشخصيات كانت متنوعة لكنها تحمل تقريبا وجهات نظر متطابقة طبقا لكل فريق وقناعاته وعلاقته بأخناتون، هناك شخصيات نالت اهتمامي أكثر من غيرها كشخصية بك المثال وذلك لأنه يمثل كذلك الثورة الفنية التي جاءت مع الآتونية ولجوء هذه المدرسة إلي التصوير الواقعي فلم تجمل من تشوهات وغرائب مظهر أخناتون واعجبني إعزاء ذلك لرغبة أخناتون في تصوير الحقيقة بلا تزييف، كما أحببت كثيرا فكرة ان أخناتون هو من نحت تمثال نفرتيتي البديع كتعبير عن موهبته الفنية وتخليد لحبه النقي لها
أعجبني أيضا شخصيات كالطبيب والملكة تي، وبالطبع نفرتيتي، لدرجة اني كنت اتحرق شوقا لسماع منظورها فهي الأقرب للحقيقة وهي من تداولت الأقاويل عنها اما بالطعن في اخلاصها وايمانها وشرفها والحديث عن جشعها في الحكم وطموحها ومجونها واما بعظمتها وذكائها واخلاصها وحبها الحقيقي وايمانها غير منقطع النظير برسالة زوجها، وقراءة منظورها...إيمانها وحبها لأخناتون ومبرراتها لهجره حطم قلبي تحطيما... لطالما احببت علاقة أخناتون ونفرتيتي التي صورت كعلاقة حب في فن تلك الحقبة الواقعي، فلم يكن من الشائع تصوير الملك مع ملكته في مشاهد الحب والغزل كما ظهر أخناتون ونفرتيتي وهما يتبادلان الأزهار ويداعبان بناتهما ويقدمان القرابين، كما ان أخناتون رفع من شأن نفرتيتي وهي تمكنت من اثبات جدارتها فكانت بمثابة الشريك المكافئ له في الحكم ومكانتها تصل لمكانته ويظهر هذا في الألقاب المعطاة لها وصلاحياتها في تقديم القرابين لآتون كما يفعل أخناتون وهذا لم يكن مسموعا به كثيرا في التاريخ المصري القديم، وبالمناسبة هناك نظرية تقول لإن نفرتيتي كانت حاكما رسميا إلى جانب أخناتون تحت اسم سمنخ رع...
لا شك ان العمل الادبي أبهرني وربما لتحيزاتي المسبقة لأخناتون ونفرتيتي، لكن لمسة محفوظ أضافت الحياة والوضوح ونسخة من الحقيقة للغز أخناتون ، هذا الملك المهرطق... أول فرد في التاريخ